على فالس شوبان الذى يتصاعد من البناية المقابلة ها هو يرقد أخيراً، بفرائه البني الكثيف، و عينيه الخضراوين. كما توقع صديقي زوربا نهايته تماماً، على أسفلت حار، في منتصف الطريق تماماً، ذلك الطريق الذي يخافه الجميع في الحي، يرقد و يجانبه نتيجة العام الماضي، و التي على ظهرها صورة لقط يلعب بكرة من خيط ، و إلى جانب النتيجة يوجد غلاف مهمل لأحد أنواع الشيكولاتة.
لا أعرف إذا كان وقع ضحية لتلك الحافلة الصفراء التى كان يتحدث عنها دوماً. حيث لم يعد فى الحي سواي يمكنه تمييز الألوان. بل يمكننى القول بأن بعد - "ابروز" -أو "زوربا" فى حياته السابقة – لم يعد هناك من مجموعة "أبناء الموكيت" غيري. كيف سيمكنني مواجهة الحياة هنا بدونه.
كان زوربا قريباً من الإجابة على كل أسئلته، كان يتمنى رؤية شقيقه تيمور ليعتذر له قبل الرحيل، كان يتحدث كثيراً عن الموت فى الفترة الأخيرة. عن تلك الأسطورة التي تحيط بكل قط من قطط هذه المنطقة البائسة. أسطورة ذلك الشارع الذي لم يدخله أي قط إلا و عرف نهايته المحتومة. كنه نسميه شارع "وتيت" على اسم آخر ضحاياه. من الآن فصاعدا سيكون على إبلاغ الجميع بالاسم الجديد.. "شارع ابروز"..هذا إذا خرجت سالماًَ من هذا الشارع. هذا إذا أكملته حتى النهاية.
فالأسطورة تقول "إذا تفاديت كلاب الجزار السبعة، ومياه الحراس الحارقة، و إغراء صناديق القمامة المسمومة من أجلنا، فلن تتمكن من الهروب من الحافلة الصفراء". و يبدو أن زوربا نجح في الوصول حتى المحطة الأخيرة. قبل أن يهزمه ضيق هذا الشارع المقبض، الذي لم يترك له خيارات سوى المقامرة و الهروب إلى منتصف الطريق، حيث الموت فى كل لحظة. "زوربا" لم يكن يجيد المناورة. كان لا يجد مفراً من المواجهة. ها هو غلاف الشيكولاتة يطير، ليبقى وحيداً بانتظار من يجرؤ على رفعه ربما بعد يوم أو أثنين، ربما يقدم على هذا ذلك الرجل المطل من شرفة منزله، و ينظر ناحيتنا، حيث تبدو قطرات الماء المعتادة تنزل من عينيه، و كأنه يظهر تعاطفاً معنا.
البشر يقولون دوماًَ أن حياة المرء تمر أمام عينيه فى اللحظات الخمس الأخيرة قبل أن يموت. لا اعرف إذا كان زوربا قد مر بهذا أم لا ؟ فى حديثه الأخير بالأمس معي قال لي "كل ما أتمنى فعله قبل أن أموت هو معرفة من أين أتيت؟ أنا أشعر بقربي من الإجابة على هذا السؤال!". لقد كان زوربا يتحدث دوماً عن أن "شارع وتيت" هو الشارع الذي يحوى الإجابة على هذا السؤال؟ فقد كان الشارع الوحيد الذي لم يدخله "الصعلوك" كما كنت ألقبه. كنت مقرباً منه للغاية، فقد كنت الوحيد تقريباً الذي يفهم حديثه عن مذاق السلمون المعلب، سماع موسيقى شوبان في العاشرة مساءً، رائحة البيض المقلي، متعة مطاردة الحمام الأبيض فى الشرفة.يد آدمية حنونة تمسح ظهرك لتوقظك فى السابعة صباحاً. لون لبن السابعة و الربع الأبيض الصافي. لقد كان ذلك الحديث يعوضنا عن ليلة قارصة البرودة في مقلب للقمامة، بانتظار أن يشعل أحدهم قطعتي خشب.
لقد رحل زوربا و هو غاضب منى. حيث طرح الأسئلة التي كنت أخاف من الإجابة عليها طيلة حياتي. "ألا تريد أن تعرف من أين أتيت؟، "ألا تريد أن تعرف اسمك الحقيقي"، "ألا تريد التعرف على هوية الذين يطاردونك في أحلامك؟"، "ألا تريد معرفة سبب حبك للموسيقى الكلاسيكية؟"، "ألا تريد معرفة ما إذا كانت لك عائلة أم لا؟!"، "ألا تريد أن تصبح أول قط فى المنطقة يجيب على هذه الأسئلة؟", "ألا تريد أن تعرف ما إذا كنا قد تقابلنا في حياة سابقة؟".
لقد غضب منى زوربا عندما أطلقت عليه لقب "الصعلوك،" فلقد كانت كلماته تعصف بي. منذ أن وجدت نفسي في هذا المكان و الجميع يسألني هذه الأسئلة دون أن اعثر على إجابة شافية. لقد ظننت أن زوربا يتباهى بمعرفة أسمه الحقيقي، و الذي حمله منذ أيامه المنزلية. ففي أول لقاء بيننا قبل عدة سنوات قال لى أن اسم زوربا أتى له فى أحد الأحلام. و عندما أبلغ الجميع بهذه القصة، لم يصدقه أحد، بل عاقبوه كما تنزل قطط الحي الأصلية العقاب بقطط المنازل المفقودة من أصحابها. بأن ينطقوا الاسم بالمقلوب، ليصبح أسمه "ابروز" حتى يبقى هذا الاسم وصمة تميزه عن الآخرين. لقد كنت الوحيد الذي ظللت أناديه باسم زوربا حتى يوم أمس. لا اعرف لماذا؟ ربما لأحتفظ بصداقته لأطول وقت ممكن.
الحرارة لا تحتمل هنا، ليست هناك بقعة ظل في ذلك الشارع الخانق. أنا أحاول لفت أنظار الجميع لحمل صديقي.دراجة بخارية تمر بجانب صديقي دون اكتراث، و نفس الرجل يتأمل ذلك المشهد الغريب، غير أنه عاجز عن الحركة، إنه يحدق فينا بغرابة، أنا أفضل أن يقوم بإبعاد صديقي عن الطريق قبل تأتى حافلة أخرى لتدهسني هي الأخرى. لا اعرف كيف كان زوربا يضع آمالاً عريضة على البشر، كان يرى فيهم الرفاق الحقيقيين. كان يكره لقب "الصعلوك" حتى على سبيل المزاح، كان يكره الشارع، و نمط حياة الشارع، يتحدث طيلة الوقت عن "المنزل". يريد أن يعلم إلى أى مكان ينتمي؟ كيف يبدو صاحبه الآن؟ لقد كان زوربا يضيق ذرعاً بأبناء الحي، كان لا يرى فيهم مستقبلاً. كان يريد أن يصبح أول قط يمتلك ذاكرة حقيقية. لقد كان يعتقد بأن قطط الشوارع تعيش ليوم واحد فقط،، لأنها تنكر ما حدث لها بالأمس، بل إنها لا تعلم عنه شيئاً في الليلة التالية.
طالما كان يكرر تفاصيل النقطة صفر في حياته، الذكرى الأولى، الكلمة الأولى التي اخترقت أذنه المكسوة باللون الأصفر، فقد كان فى مقلب موحش للقمامة بين مجموعة "القطط السمان" التي تقوم بدوريتها المعتادة للعثور على ضحايا جدد، ليسألوه السؤال التقليدي أو "الفخ" كما كان يحلو له أن يلقبه و هو .."من أين أتيت؟". لقد أجاب زوربا الإجابة التي أدخلته إلى الجحيم، أو باختصار أجاب ب "لا اعرف". لقد كانت تلك الإجابة تعنى على الفور أنك أحد قطط المنازل، إنه نفس الفخ الذي وقعت فيه أنا، إنها نفس إجابتي على نفس السؤال. فإلى جانب شاربك الطويل اللامع، و فرائك الذي يحمل ألوانا لم يعرفها قط من قبل، فلقد أدركت ماهية اختبار "القطط السمان" عندما أزالت البلدية بضعة شجيرات من الطريق قبل أسبوع. للحظات بسيطة شعرت بأني أبدأ من الصفر مرة أخرى، قبل أن أنجح في تدارك الوضع.فقطط الشوارع معرضة لأن تبدأ من جديد في كل لحظة.
زوربا لم يحتمل كثيراً الأوضاع منذ ذلك الحين، فأن تصبح قط منازل فى الطريق العام اختبار حقيقي، صديقي كان يضيق بأسئلة رفاق الشارع الآخرين، عن طعام قطط المنازل، عن النوم تحت الغطاء فى ليالي الشتاء، الالتصاق بالثلاجة أو النوم على البلاط الأملس في أيام الصيف اللعينة. عن "مشمش" ذلك القط الذي يلعب بكرة الخيط، عن قطط أفلام الكارتون التي يشاهدونها عند محلات الجزارة و البقالة.عما إذا كانت مهمة القطط هذه الأيام هي تسلية صغار البشر. كانت قطط الشوارع تعلم أن زوربا لن يملك إجابة على هذا. فلم يسبق لقط منازل أن تعرف على "نفسه"، و صديقي كان يعتصره العجز عن الرد. كنت أشعر بتعاطف حقيقي معه دون أن أعلم السبب. فقبل عام من ذلك التاريخ طرحوا على نفس الأسئلة. لأقبل بمصيري الجديد، الذي لا أعلم كيف وصلت إليه.
ثاني عربة فاكهة تمر من أمامنا دون اكتراث، و طفل في الثالثة يسأل والدته عن اسم ذلك الحيوان الملقى على الأرض، وعن الحيوان الذي يجلس بجانبه فى انتظار من يحمل صديقه الملقى على الأرض. و الرجل الأربعيني الذي كان يطل من الشرفة، أصبح أمام بوابة المنزل. إنه يبدو الوحيد الذي يبدى اهتماماً بنا وسط هذه الفوضى. هل ابدأ بالمواء الآن؟ هل اختبر ثقتي بالبشر يا "زوربا" مثلك؟...
لقد كنت تفضل دوماً الحديث عنهم. و كنت تود العودة إليهم. لقد كنت تخبرني "أن القطط تتذكر الأشياء و لكنها لا تتذكر الأشخاص". سألتني عما يجب أن تفعله في الشارع، فأجبتك بأن تتعرف على أنواع أخرى من الطيور، أو الأسماك، أن تصبح لك عشرون زوجة، و مائة ابن لا تعلم عنهم شيئاً فى الصباح التالي، أن تتعرف على قطط جديدة كل يوم. أن تتعلم القفز لمسافة خمسة أمتار كاملة في مرة واحدة كالتي أتقنها حالياً. ألا تعلم ما الذي سيحدث لك غداً، أن تصبح قطاً مختلفاً كل يوم.
لم يبتلع زوربا كلامي، كما أنه شعر بعدم صدقي. كما لو كان حلم العودة إلى "المنزل" مازال يراودني حتى تلك اللحظة دون أن أفصح عن هذا. لينقلب الوضع و يعرض على مرافقته فى رحلته للتعرف على منزله القديم. رفضت متعللاً بحياتي الحالية, ليبدأ رحلة الطواف بشوارع المنطقة التسعين، شارعا في كل أسبوع. وكأنه أقسم على أن يجعل كل لون يصادفه، كل شخص يحدق به، كل رائحة يشمها، كل قطعة موكيت ملقاة على الأرض دليلا على ماض لا يتذكره. و في نهاية كل أسبوع من البحث نلتقي ليلاً في إحدى الحدائق المقفرة. في كل أسبوع كان زوربا يضع أمامي مكعباً جديداً من مكعبات قصة حياته. عن الموسيقى التي كان يسمعها. عن بعض كلمات لغة البشر التي كان يجيدها بفضل صاحبه، و عن ابن صاحبه الذي كان دوماً يريد مغادرة المنزل، وعن رائحة اللحم قبل طهوه، عن النوم على حافة الشرفة صيفاً.
فى كل مرة كنا نلتقي فيها كان زوربا يضئ بحكاياته حديقتنا الفقيرة. لقد كنت أتوحد معه دون أدرى سبباً. حتى تلك الليلة التي أبلغني بأنه أصبح يتذكر عائلته، والده الذي كان يدعى "جنزبيل"، و كان يحكى أنه كان ينتقل من منزل إلى منزل لإخصاب أنثى ما قبل أن يرحل، أمه التي كان تطل كل يوم من الشرفة في انتظاره. شقيقته التي لا يتذكرها لأنها ماتت مبكراً، و شقيقه التوأم الذي كان لا يتوقف عن اللعب معه يومياً، كيف كانا يقومان بنفس البرنامج اليومي، و يتقاسمان معاً نفس صحن اللبن، و عن عشقهما للتواجد معاً على الرغم من ضيق ذاك الشقيق به. و كيف كان يغار من زوربا الذي كان قطا سريع التعلم، يجيد كل شئ بداية من الانتقال بين أريكتين متباعدتين حتى القفز من ارتفاعات شاهقة، و هي المهارات التي طالما أخفق شقيقه فى تعلمها. بل أنه أخفق في القفز لمسافة متر واحد للأمام حتى انه كاد يسقط من النافذة فى واحدة من مغامراته الفاشلة، محاولاً الجلوس على جهاز التكييف الممتد من حائط المنزل الخارجي ناحية مقلب القمامة الكبير.
كل أسبوع كان زوربا يحدثني عن اسم جديد تذكره لشقيقه، إلى أن أستقر خلال الشهر الأخير عند اسم تيمور ، لم يتوقف زوربا عن سرد قصص تيمور، و كيف كان تيمور متمرداً طيلة الوقت على قواعد المنزل، فى الوقت الذي كان فيه هو مطيعاً هادئاً. فكلما نضجت القطط، أصبحت أكثر جنوناً. كل بوابة منزل يمر بها زوربا تذكره باليوم الذي طرد فيه تيمور من المنزل بسبب موقف أحمق من زوربا، الذي حمل على عاتقه ذنب شقيقه، فقد كان صاحبهما يردد دوماً " "تيمور" لن يتمكن من البقاء على قيد الحياة في الشارع يوماً واحداً، إنه لن يحتمل كثيراً" . "زوربا كان يشعر بالذنب، وللمرة الأولى يغار من شقيقه الذي كان أشجع منه، فلقد كان يريد اختبار حياة الشارع مثله.
كان الرجل الأربعيني يواصل النظر ناحيتي أنا و زوربا باهتمام أكبر،و فى تلك اللحظة تذكرت ليلة الأمس .كان "زوربا" متجهما، فقد تأكد من أن الشارع الأخير الذي يحمل الإجابة الشافية على سؤاله الصعب قد يكون الوحيد الذي لم يدخله حتى الآن. و هو شارع "وتيت". و ساعده على هذا اكتشاف جهاز تكييف معطوب شبيه بذلك الجهاز الذي سقط من فوقه زوربا فى ليلته الأخيرة بمنزله، فقد كانت ثقته الشديدة مبالغا فيها حتى أن توازنه أختل للحظة. فسقط على الصاج البلاستيكي الذي يغطى الطابق الأول من البناية. زوربا مازال يتذكر ملمس أرضية ذلك الصاج البلاستيكي. لقد كانت مختلفة تماماً عن ذلك الموكيت. لقد شعر الآن بما تحدث عنه شقيقه. لقد حكى لى زوربا كيف نادى عليه صاحبه من أجل البقاء ثابتاً بمكانه، إلا أن زوربا ألفى بنظره إلى السماء ليرى لون ليل مختلفا عما رآه من قبل من النافذة. ثم عاد لينظر إلى صاحبه مرة أخرى. لقد أختار زوربا القفز مرة أخرى إلى أرضية مقلب القمامة. و لكن وجه صاحبه كان قد اختفي. المشهد بأكمله قد تغير. زوربا منذ تلك اللحظة أصبح "ابروز".
منذ أن تركني زوربا بالأمس و أنا أفكر جدياً في بدء رحلتي الخاصة لمعرفة منزلي، حيث كان صديقي يقول دوما : "كل قط شوارع يدخل بناية ما هو إلا قط يبحث عن منزله الأصلي". و عندما وصلتنى الأنباء بما حدث لصديقي هذا الصباح، عادت الفكرة مرة أخرى للقفز إلى ذهني. فلم يعد هناك من يريد أن يتقاسم معي ذكرياته، لم يعد هناك من يريد أن يتذكر. حتى أصبحت اعتقد أنى "قط الموكيت" الوحيد فى المنطقة. وسط كل تلك الأفكار التي تتلاحق في رأسي الصغيرة. كان الرجل الأربعيني المتأمل لحالنا يصدر أول رد فعل إيجابي من جانبه، حيث أخذ في الصراخ تجاهي..."انتبه يا تيمور!!!"
. نظرت إلى يميني لأجد حافلة المدارس الصفراء تسير تجاهي في سرعة خيالية قد تجعل من الصعب تفاد......
لقد قررت فى الليلة التالية بدء رحلتي الخاصة للتعرف على منزلي قريباً. ربما سأبدأ في الحال عقب البحث عن طعام مع صديق منازل جديد عجوز قابلته في الحديقة يدعى "جنزبيل"! عندما أخبرته بقصة زوربا ..أخبرني بأن البشر يقولون أن حياة المرء تمر من أمام عينيه فى لحظاته الخمس الأخيرة، أجبته بأني لا أعرف إذا كان يسرى هذا على القطط أيضاً.
مجدداً تذكرت زوربا و هو يتهكم على جملة كان يقولها صاحبه كثيراً لزوجته "لنلتقي فى الحياة القادمة عندما نكون قططاً"..ليصحح هذه المقولة في ليلته الأخيرة قبل وداعي "لنلتقي فى الحياة الأخرى عندنا نكون بشراً".
خالد يوسف
No comments:
Post a Comment